المادة    
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله آخر ما ذكر: أن الناس ثلاثة أصناف: صنف يميل إلى الاعتدال، وصنف يميل إلى الأغنياء، وصنف يميل إلى الفقراء، وأن خير ذلك كله هو الاعتدال، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وتدل عليه النصوص التي ذكرها، ومنها: الحديث الذي سبق ذكره، والكلام عنه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( ذهب أهل الدثور بالأجور )، وشكوى فقراء المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حالهم مع إخوانهم الأغنياء، ويقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11/127): فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات القلبية والبدنية، فقد زادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله، ونحوه من العبادات المالية.
قال: (وثبت عنه أيضاً في الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( يدخل فقراء الأمة الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم؛ خمسمائة عام ) ، وفي رواية: ( بأربعين خريفاً )، فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق) أي: كلا المعنيين في الحديثين، وهما: أن الأغنياء يفضلون إخوانهم الفقراء بالإنفاق؛ مع اتفاق الطرفين في العبادات البدنية، لكن يزيد الأغنياء عنهم بالعبادات المالية، فهذا حق، وهذا هو معنى الحديث الأول، ومعنى الحديث الثاني حق أيضاً، وهو: أن الأغنياء يتأخر دخولهم عن الفقراء، فيدخل الفقراء الجنة قبلهم، فهذا حق، وهذا حق. ‏
  1. بعد أهل الترف والرئاسة غالباً عن الانقياد للدين

    قال شيخ الإسلام: (ومن هذا الباب قول هرقل لـأبي سفيان عندما قابله: ( أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل : هم أتباع الأنبياء ) ) وهذا الكلام مختصر، وإلا فإن هرقل قال: ( وسألتك أضعفاء الناس اتبعوه أم شرفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم، وهم أتباع الأنبياء )، فهذا دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم: أن يكون أتباعه هم الضعفاء.
    قال شيخ الإسلام: (وقد قالوا لنوح: (( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ))[الشعراء:111]، فهذا فيه أن أهل الرئاسة والشرف يكونون أبعد عن الانقياد إلى عبادة الله وطاعته؛ لأن حبهم للرئاسة يمنعهم من ذلك، بخلاف المستضعفين) فهذا ليس فيه تفضيل الفقراء والضعفاء مطلقاً.
  2. أحوال الدعاة في دعوة الفقراء والأغنياء

    فمن الناس من يقول: أنا أهتم بفلان، وأزوره، وأحسن العلاقة معه؛ لأنه من أهل المال، فبيتهم بيت مال، ومنصب، ومكانة اجتماعية، فإذا هداه الله فهذا مكسب كبير للدعوة، أو في العمل، أو في الحي، أو في المدينة مثلاً، فيهتم به، وإذا جاءه الفقراء أعرض عنهم، فيكون حاله: (( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ))[عبس:8-10]، هذا جانب.
    الجانب الآخر: من يقول: دعك من هؤلاء المترفين والأغنياء، ولا ينظر إليهم، ويقول: إن أكثر أتباع الأنبياء من الضعفاء، فأنا أدعو هؤلاء الفقراء والضعفاء، وأذهب إليهم في أكواخهم، وفي أحيائهم، ويترك هؤلاء الكبراء، فلا يقربهم ولا يدعوهم، هذا خطأ أيضاً، وهذا الكلام مبني على الخطأ في المسألة من أصلها وهو: إما الميل إلى الأغنياء، أو الميل إلى الفقراء، وكلاهما خطأ، فالصحيح: أن تنظر إلى هؤلاء وهؤلاء، وتعدل بحسب التقوى والقبول والسمع، وتحذر ما قد يأتيك عندما تخالط هذا من الافتتان، أو عندما تخالط هذا أيضاً من الافتتان والبلوى، فهذا فيه بلوى، وهذا فيه بلوى، وهذا فيه فتنة وهذا فيه فتنة، فقد تفتن بهذا أو بهذا، فلتحذر الطرفين.
    ولا حجة لمن يرى خلطة الفقراء وحدهم بمثل هذا الحديث، أو بقوله تعالى: (( وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ))[الشعراء:111]، أو قوله: (( الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ))[هود:27]، وإنما تدل هذه الآيات وهذا الحديث على أن أهل الكبر والترف والمال عادة أنهم لا ينقادون، وعادة أنهم يريدون أن يكونوا هم القادة، ويريدون أن تسمع لهم الناس، وهذا الدين عبودية، وكف عن الشهوات، والدين اتباع، أي: أنه يريدك أن تَتَّبِع لا أن تُتَّبَع، فيشق عليهم وقد تعودوا على الرئاسة، والأمر والنهي؛ أن يصبحوا أتباعاً منقادين.
    هذا هو المدلول فقط، ولا يعني ذلك أن كل واحد من هؤلاء هو كذلك، بل ربما كان منهم من يفرح بإيمانه وهدايته، ويحرص على دعوته؛ لأن فيها خيراً، وفيها منفعة، ولو اهتدى لنفع الله تبارك وتعالى به، فعندما اهتدى وآمن عمر رضي الله تعالى عنه انتقل الدين، وانتقلت الدعوة من مرحلة إلى مرحلة، أي: من مرحلة السرية إلى العلنية والمواجهة؛ لقوته في الحق رضي الله تعالى عنه، فالدعوة ينبغي أن تخاطب هؤلاء وهؤلاء، وتحرص على هداية هؤلاء وهؤلاء.
    وأما المحظور فهو أن تشغلك دعوة الكبراء؛ لأهميتهم في نظرك عمن يأتيك من الفقراء، ويحرص على الخير، فتزعم له أنك مشغول، أو تتلهى عنه؛ لأن آيات عبس هي على هذا المعنى، أما لو أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الأغنياء، وذهب إلى الفقراء، ولم يتشاغل عن الأعمى بغيره؛ لما جاء العتاب من الله تبارك وتعالى، فيؤخذ الأمر على حقيقته المتوازنة، ولا يكون فيه إجحاف لا للأغنياء ولا للفقراء، كما قال الله تعالى كما تقدم: (( إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ))[النساء:135] .
  3. معنى حديث: (اللهم أحيني مسكيناً...)

    يقول شيخ الإسلام: (وفي هذا الحديث المأثور إن كان محفوظاً) الذي أعرفه من قبل أن هذا الحديث حسن، فلنراجعه أكثر، وهذا الحديث رواه الترمذي من حديث أنس ، ورواه أيضاً ابن ماجه ، و الحاكم وصحح إسناده، ورواه الحاكم عن أبي سعيد الخدري وقال: صحيح الإسناد، فقول الشيخ هنا: إن كان محفوظاً؛ يدل على أن فيه شيئاً، فلنراجعه إن شاء الله.
    وهذا الحديث هو: ( ( اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين ) )، فهذا الحديث لا يدل على تفضيل الفقر والمسكنة مطلقاً، وإنما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يكره الكبر وأهله، فالمسكين قد يكون غنياً، وقد يكون ذا مال، ولكن المهم أن يكون متواضعاً.
    يقول شيخ الإسلام: (فالمساكين ضد المتكبرين، وهم الخاشعون لله، المتواضعون لعظمته، الذين لا يريدون علواً في الأرض؛ سواء كانوا أغنياء، أو فقراء).
    ولهذا قد يقال عن بعض الملوك، أو بعض الأغنياء، أو بعض المترفين من أهل الدنيا: فلان مسكين، فليس معناه: أنه فقير لا مال له كما نفهم من مثل قوله تعالى: (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ))[التوبة:60]، وإنما المراد: أنه متواضع لا يحب الخيلاء، ولا يحب الفخر؛ مع أنه لديه المال، وعنده المنصب، وغير ذلك.
    فالمقصود إن ثبت الحديث: فإن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يحيا كما يحيا هؤلاء، ويعيش كما عاشوا، ويحشر معهم؛ لأنهم الخاشعون المتواضعون المخبتون. والإخبات مأخوذ من الخبت، والخبت: هو الأرض المستوية المنبسطة. فالإخبات: هو الالتصاق بالخبْت، فكأن الإنسان متواضع إلى حد أنه ملتصق بالأرض فلا يتكبر، ولا يترفع على شيء من أوامر الله، فهؤلاء هم المخبتون الذين أخبتوا إلى ربهم، وهؤلاء يدعو النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم، وفي هذا تعليم لنا كي نحبهم، ونسعى أن نكون منهم.
  4. العلة في دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء

    يقول: (فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب) أي: أن العلة في التأخير ليست تفضيل هذا على هذا، ولكن لأن هذا لديه ما يحاسب عليه، والآخر ليس لديه ما يحاسب عليه، (فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب؛ لما فاته في الدنيا من الطيبات) فلا يجمع عليه بين الفقر في الدنيا والانتظار حتى يحاسب الأغنياء في الموقف، فالله تعالى من عدله وكرمه: أنهم كما فاتتهم الطيبات في الدنيا، وعاشوا على الفقر والكفاف؛ فإنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء، هذا بالنسبة للفقير.
    قال: (والغني يحاسب: فإن كان محسناً في غناه غير مسيء، وهو فوقه؛ رفعت درجته عليه بعد الدخول) أي: بعد أن يدخل الجنة فإنه يكون أعلى درجة من الفقير، (وإن كان مثله ساواه) فيصبح الفرق بينهما: تأخر هذا، وتقدم هذا، (وإن كان دونه نزِّل عنه، وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير) فهذا كله عدل، والله سبحانه وتعالى في كل أفعاله وأحكامه عدل عز وجل، (( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ))[الأنعام:115]، أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
  5. خصوصية فقراء المهاجرين على غيرهم

    قال: (ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حوضه الذي طوله شهر وعرضه شهر: ( ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس علي وروداً فقراء المهاجرين ) )؛ مع أن الفقراء موجودون في عامة الأمة، ولكن هذا خاص بفقراء المهاجرين.
    قال: ( ( الدنسين ثياباً ) ) المفروض أن يكون هكذا: الدنسون؛ على خبر، فلا أدري لماذا نصب.
    ثم قال: ( ( الشعث رءوساً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره؛ لا يجد لها قضاءً ) ) أي: أن بعضهم ربما يشتهي لحماً مشوياً مثلاً، فيموت ولم يطعم هذا اللحم، وربما يشتهي لبناً طازجاً طرياً حديث عهد بضرع، فلا يجده، وربما يشتهي أن يأكل خبزاً مرققاً، ليس من الشعير، ولا من النخال؛ فلا يجده، فيموت كثير من الناس ولم يجدوا ذلك، ولا عرفوه.
    ففقراء المهاجرين لهم خاصية حتى على فقراء الأنصار؛ فضلاً عن غيرهم من الفقراء؛ لما أصابهم في ذات الله تبارك وتعالى، وابتغاء وجه الله من الشدة، وألم وتعب الهجرة، وفراق الأهل والمال بمكة، وما نالهم من الأذى والتعب، ففضلهم الله سبحانه وتعالى، فكانوا أول الناس وروداً على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول شيخ الإسلام: (فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة) أي: المعانة والألم والتعب.
    قال: (وهذا موضع ضيافة عامة) للأمة كلها.
  6. التقديم في دخول الجنة، أو في الشرب من الحوض لا يعني الأفضلية على الغير

    يقول شيخ الإسلام: (فإنه يقدم الأشد جوعاً في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع طعام ليس لبعض المتقدمين؛ لاستحقاقه ذلك ببذله عنده، أو غير ذلك).
    أي: كما أنك في الوليمة والدعوة العامة تحرص على أن أول من تطعمه هم الأكثر جوعاً، ولا يعني ذلك أن بعض الضيوف الذين يأتون في الأخير ربما تختصهم بطعام فيه ما ليس عند الأول، أو يتميز عن الأوائل، فالذي يأتيك وقد تعب وأجهد وهو جائع فإنك تقدمه، والتقديم لا يعني أن تعطيه أفضل ما عندك، ولكن تقدمه، ثم بعد ذلك قد يأتي متأخر فتختصه وتميزه بطعام أفضل؛ لمكانة له مثلاً، أو فضل، أو ما أشبه ذلك، فهذا أمر طبيعي، وهو بحسب مقامات الناس ومنازلهم ودرجاتهم.
    فذلك يرضى بالتقديم؛ لشدة جوعه وحاجته، والآخر يرضى -وإن أخرته- بتقديم غيره؛ لأنك ادخرت له ميزة لم تعطها الآخر، وهذا دليل على أن ذلك غير خارج عن مقتضى الحكمة والصواب من الكريم أياً كان هذا الكريم؛ ولا أحد أكرم من الله عز وجل، وليس في البشر أكرم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  7. الراجح في التفضيل بين الأغنياء والفقراء

    يقول شيخ الإسلام: (وليس في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من هذين الحديثين، وفيها الحكم الفصل).
    يعني: هذه المسألة التي أطال فيها الصوفية وأمثالهم، وتجادلوا: أيهما أفضل؛ ليس فيها أصح من هذين الحديثين، وكل منهما يدل على ميزة، وبالجمع بينهما نصل إلى قاعدة ونتيجة صحيحة لا يخالف ولا يجادل فيها أحد.
    وهذا الحكم هو: (أن الفقراء لهم السبق، والأغنياء لهم الفضل، وهذا قد يترجح تارة، كالسبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ومع كل ألف سبعون ألفاً، وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم).
  8. توضيح مسألة التفاضل في دخول الجنة بغير حساب

    وهذا الأمر من الأمور التي أشكلت، ولا تزال تشكل على كثير من طلبة العلم، فهو يعلم أن بعض الصحابة أولى الناس بأن يكونوا من السبعين ألفاً، ثم يجد أن بعضهم قد استرقى مثلاً، فيتردد في هذا، فهذا الجواب من شيخ الإسلام يحل الإشكال وهو: أن أولئك ميزتهم وأفضليتهم الدخول بغير حساب، لكن قد يحاسب من لم يكن في هذه الدرجة من كمال التوحيد في هذا الموضوع -أي: موضوع الرقية أو الكي- بعدهم، لكنه يكون أرفع درجة منهم في الجنة.
  9. توضيح مسألة عظم الأجر للعامل في آخر الزمان

    وهذا يدخل في أبواب كثيرة من التفضيل، وقد نبهنا ونعيد هنا: أن مسائل التفضيل كثيرة، ولكنها تحتاج إلى جمع، مثل مسألة: التفضيل بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه، فبعضهم يسأل: كيف يكون العامل من إخوان النبي صلى الله عليه وسلم -نسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم- الذين جاءوا من بعده، وآمنوا به ولم يروه؛ كيف يكون للعامل منهم أجر خمسين من الصحابة؟ فيقال: بالنسبة للدرجات والمنازل عند الله فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لهم الفضل والميزة والسبق. وفي إخوان النبي صلى الله عليه وسلم من يبلغ في الدرجة، أو في كمية الأجر -وليس في الميزة والأفضلية- أكثر من بعض المتقدمين، والمتقدمون في الجملة أفضل، ولكن هذا لا يعني: أن كل أحد من المتقدمين أفضل من كل أحد من المتأخرين، فلا يلزم منه ذلك.
  10. نعمة الله وتوفيقه لبعض العلماء في الجمع بين الأدلة التي ظاهرها التنازع

    فهكذا مسائل التفضيل تحتاج إلى نوع من الفقه، ومسائل الجمع من أعظم المسائل التي لا يوفق فيها كل أحد إلا من امتن الله تبارك وتعالى عليه، فمن السهل أن تقول في مسألة ما: هذا مرجوح، أو هذا ضعيف، أو هذا مردود؛ لأنه خالف حديثاً صحيحاً، فتحكم عليه بذلك، وهذا يفعله كثير من العلماء، وهم مأجورون إن شاء الله؛ فهذا اجتهادهم، لكن القليل من العلماء -وهؤلاء يعدون على الأصابع، ولا أعلم في هذه الأمة مثل شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الباب - من يستطيع أن يجمع وأن يوفق بين الأدلة مهما ظهرت متعارضة.
    ولا غرابة في ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى فتح عليه في المنقول والمعقول معاً، فليس ممن يرد الأحاديث جملة مثلاً، أو يعارضها، وإن كان المعارض الآخر أقوى منها، أو أكثر فيقول مثلاً: أنا أرجح هذه على هذه؛ لا، وهذا لا حرج فيه أن يقول الإنسان: أنا أرجح الأحاديث التي تؤمر بكذا على الأحاديث التي تنهى عند كذا مثلاً؛ لأنه يرى أنها منسوخة، أو أنها أكثر، أو أنها أصح، فالمهم ألا يكون ذلك بهوى وبدعة والعياذ بالله، ونحن لا نتكلم هنا عن أهل البدع، وإنما نتكلم عن علماء السنة وعلماء السلف، فبعضهم يرجح -كما رأينا- الأغنياء، وبعضهم يرجح الفقراء؛ اجتهاداً، لكن من يجمع بينهما بحيث يجد مخرجاً لكل منهما بدون أن يلغي شيئاً من الأدلة؛ هذا هو غاية الفقه في الدين، وهو الذي يوفق الله تبارك وتعالى له من شاء، وهم قلة يختارهم ويصطفيهم.
    وأنا أرى أن هذا المنهج -والحمد لله- يمكن أن يكتب الله تعالى لكل واحد منا فيه بخط، فالمهم ألا نتعجل دائماً في رد شيء من المتعارضات أو المتناقضات في نظرنا، وإنما نطيل التفكير، ونكثر السؤال، ونكثر القراءة؛ فربما وجدنا وجهاً أو مخرجاً للجمع، وباتفاق علماء الأصول: أن الجمع مقدم على الترجيح، وعلى القول بالنسخ الذي قد لا يكون عليه دليل في كثير من الأحيان.
    وهذا يأتي في مسائل كثيرة نحتاجها، فيأتيك في مسائل الصلاة، ويأتيك في مسائل الحج، وفي الصيام، ويأتيك في بعض الأحكام في الرضاع أيضاً، وفي أمور كثيرة لا ينبغي الاستعجال بالرد أو النفي المطلق، وإنما يحاول الإنسان ما استطاع أو ما أمكن، وليكثر الإنسان من القراءة فلعله يجده في كلام العلماء؛ وخاصة في كلام شيخ الإسلام ، ثم تلميذه ابن القيم رحمهم الله.
  11. الحكم على رواية: أن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً

    يقول شيخ الإسلام : (وما روي أن ابن عوف يدخل الجنة حبواً، وهو كلام موضوع لا أصل له) وهذا الحديث يروجه غلاة الصوفية ، وهو قولهم: إن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه يدخل الجنة حبواً، ولم يستطيعوا أن يقولوا: إنه لا يدخل الجنة؛ لأنه من العشرة المبشرين بالجنة، فقالوا: إنه يدخل الجنة، ولكن حبواً؛ لأنه كان من الأغنياء في الدنيا.
    وهذا الحديث نقضه ابن الجوزي ، ورد عليه رداً شافياً ليس من ناحية السند فقط، بل من حيث المتن، وذلك في كتابه تلبيس إبليس ، فقد رد على الصوفية في نظرتهم إلى المال، وقولهم بهذا الحديث.
    وكذلك شيخ الإسلام هنا، حتى إن أبا حامد الغزالي على ما فيه في التصوف؛ قد سار على القول الصحيح في هذه المسألة -يعني في الجملة- وهو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ( نعم المال الصالح للعبد الصالح )، فذكر في الإحياء أن المال يكون حسناً وخيراً إذا كان صاحبه ينفقه في سبيل الله، وعلى ذلك فهو خير له من الفقر.
    فـالصوفية فقط هم المخالفون في هذا الأمر، ويعتمدون على هذا الحديث، وهو حديث لا أصل له، باطل موضوع.
    وشيخ الإسلام لم يتعرض لموضوع السند: أن فيه مثلاً فلاناً الوضاع الكذاب، مع أن هذا يكفي لإبطال الحديث، فالسند يستطيع أن يقرأه كثير من الناس ويحكمون عليه، لكن هنا شيء آخر وهو: أن يكون لديك من الفقه والتأصيل ما تستطيع أن تعرف به هل هذا الحديث يتفق مع ما جاء في الشريعة أولا، ثم بعد ذلك تستطيع أن تحكم ولو مبدئياً.
  12. التأصيل الذي يرد حديث: (أن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً)

    فلذلك يقول شيخ الإسلام: (فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر ، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم، والخلفاء الأربعة أفضل الأمة) فكوننا نفضل الفقراء الذين يأتون في آخر الزمان في أيام الجنيد مثلاً أو النوري وغيرهما على عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، وهو من العشرة؛ لأنه كان له مال وهذا الفقير ليس له مال؛ هذا لا يمكن أن يتفق مع ما هو مقرر في الشريعة، وما هو معلوم بالبداهة وبالاضطرار من أن أفضل هذه الأمة هم الخلفاء الأربعة، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر ، ثم أهل بيعة الرضوان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه من العشرة، فيكون في أعلى الدرجات، فهؤلاء العشرة هم أول وأفضل هذه الأمة، والمبشرون بالجنة، فهل يعقل أن يدخل هؤلاء الفقراء من الصوفية الجنة على كيفية أفضل من كيفيته؟ وأن يكونوا في الجنة أعلى منه؛ لأنهم فقراء، ولو صبروا على الفقر؟! لا يمكن ذلك.
    فهذا دليل على بطلان ما يحتجون به في هذا، فحتى لو كانوا من فقراء المهاجرين فـعبد الرحمن بن عوف أفضل منهم؛ ما لم يكن أحدهم من الخلفاء الأربعة.
  13. أحاديث أخرى ظاهرها تفضيل أحد الصنفين على الآخر، والجمع بينها

    فـشيخ الإسلام رحمه الله بعد أن ذكر الحديثين اللذين هما العمدة في هذا الباب، وهما: حديث: ( ذهب أهل الدثور )، وحديث دخول الأغنياء قبل الفقراء، بعد ذلك يأتي بالأحاديث الأخرى، فمنها ما هو باطل كحديث عبد الرحمن بن عوف هذا، ومنها ما هو صحيح لكن له معنىً آخر لا يلزم منه ذلك التفضيل، بل يعين على فهم القاعدة، ومنها هذا الحديث.
    يقول شيخ الإسلام: (وقد ثبت في الصحاح أنه قال: ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء )، وثبت في الصحاح أيضاً أنه قال: ( احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون؟ )، وقوله: ( وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد -يعني أصحاب الغنى والمال- محبوسون، إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار )، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ) ).
    وهذه الأحاديث متفق عليها كلها أو أكثرها، فليس هناك خلاف في صحتها.
    يقول شيخ الإسلام: (فهذه الأحاديث فيها معنيان:
    أحدهما: أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين؛ سواء كانوا أغنياء أو فقراء).
    وقد ذكر شيخ الإسلام هذا المعنى حتى يصحح النظرة، فلا يفهم أحد من قوله صلى الله عليه وسلم: ( فقالت الجنة: في الضعفاء، وقالت النار: في المتكبرون ) أن أهل الغنى في النار، وأهل الفقر في الجنة، فليس الأمر كذلك، وإنما يقول: إن المتكبرين والجبارين، سواء كانوا أغنياء أو فقراء فدارهم النار والعياذ بالله، وإن الخاشعين المخبتين المنيبين دارهم الجنة، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فهذه هي القاعدة.
  14. معنى الكبر في حديث: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)

    قال: (وقد ثبت في الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) ، وثبت أيضاً: ( لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ) بمعنى: لا يخلد فيها.
    إذاً: فالمسألة ليست الفقر والغنى؛ بمقدار ما هي في الكبر وإن كان صاحبه فقيراً، أو بالإيمان وإن كان صاحبه غنياً، ولذلك سيأتي ذكر الفقير المختال المتكبر مع فقره في الحديث الذي بعد هذا.
    فيقول شيخ الإسلام : ( ( فقيل: يا رسول الله! الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، أفمن الكبر ذاك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إن الله جميل يحب الجمال ) ).
  15. الفرق بين الجمال والكبر

    فهناك فرق بين الأمرين: بين الجمال، وبين الكبر، فالجمال شيء، والكبر شيء آخر، وكما في الحديث الآخر: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، فهو يحب الطيب، ويحب الطيبين، ويحب الطيبات.
    ( ( ولكن الكبر بطر الحق، وغمط الناس ) )، فهذا تعريف عظيم، وموجز بليغ جداً، وهو يختصر ماهية الكبر؛ هذا المرض الخبيث والعياذ بالله؛ الذي أطال العلماء فيه الكلام، وفيه الكثير من الأحاديث، بل وفي القرآن، كما قص الله تبارك وتعالى علينا مثلاً من قصة قارون : (( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ))[القصص:79]، وأمثاله من المتكبرين.
  16. معنى قوله: (الكبر: بطر الحق)

    فهذه العبارة الجامعة المانعة ميزت بين الجمال، والنظافة والتطيب في الأمر كله؛ وبين الكبر، فالكبر: بطر الحق، وغمط الناس، ففيه أمران: إما أن يكون المتكبر في ذاته لا يريد الحق ولا يقبله، فيستكبر عنه، حتى ولو كان من أوامر الله تبارك وتعالى فإنه لا يريده، وهذا مثل الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا استطعت، فما رفعها بعد ذلك إلى فيه -أي: شلت والعياذ بالله- ما منعه إلا الكبر ) لأن بعض الناس يظن أن الأكل بالشمال هي أكلة المتأنقين، وأما الضعفاء والفقراء فإن أحدهم يمسك باليمين.. وهكذا، فلما كان الدافع له، والمانع الذي عارض به أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الكبر؛ قال له: ( لا استطعت )، فلم يرفعها بعد ذلك والعياذ بالله.
    فالكبر: بطر الحق، أي: أنه لا يريد أن يخضع للحق، ويشعر بأنه فوق الحق، وأنه فوق أن تقول له: هذا حرام، أو هذا واجب، أو هذه سنة، أو هذا مكروه، فيرى أن هذا الكلام لا يخاطب به مثله، وإنما تخاطب به العمال، والفقراء، والضعفاء، والطلاب، وأما إنسان بهذه الرتبة، وبهذا المنصب، ومعه هذا المال فإنه لا يخاطب بذلك على زعمه.
  17. مراعاة الداعية مواطن الدعوة وكيفيتها

    وبعض الأحيان يقول بعضهم: لقد قالها لي أمام الناس، سبحان الله! نحن نقول: إن الداعي يجب أن يكون حكيماً، ولا يقول كلاماً إلا في موضعه، ولكن افرض أن واحداً قال لك أمام الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا؛ ألست عبداً لله؟ ألست من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقل: سمعاً وطاعة، أوليس في نظام أهل الدنيا -ولا سيما إن كانوا عسكريين أو ما أشبه ذلك- أنه إذا بلغك الأمر فإنك لا تقول للمبلغ: لماذا تبلغني أمر القائد أمام الناس؟ وإنما يذكر لك ذلك في أي مكان، ولا تحتج، ولا تعترض، ونحن مع ذلك نقول: ينبغي للداعية أن يتخير ويتحين متى يدعو، متى يتكلم، لكن كلنا عبيد لله عز وجل، فإذا قال لنا قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا؛ فلا نبطر الحق، ولا نستكبر عنه، بل على الواحد منا أن يقول: سمعاً وطاعة، ويشكر له، ويحبه، ويفرح به، ويسأل الله عز وجل أن يكثر من أمثاله؛ لأنه إذا وجد في الأمة من يقول الحق ولا يتهيب، ولا يخاف؛ فهذه الأمة مآلها إلى خير، وهذا دليل على أن الأمة سليمة معافاة.
    وأما أن يستكبر على ذلك فهذه المشكلة خطيرة، وهي دليل على مرض خطير وعظيم في القلوب وهو الاستكبار على الحق، والاستنكاف أن يكون عبداً لله، والله تعالى يقول: (( لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ))[النساء:172]، وهكذا حال الذين فضلهم الله تعالى وميزهم أنهم لا يستنكفون أبداً، بل يفرحون بأن يدخلوا تحت اسم العبودية، وكلما كانت العبودية أكثر كانت الرتبة أعلى.
    ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى على نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم المنة في الميزة، والشرف الذي لم يشاركه فيه أحد من الأنبياء قط، ولا من البشر، وهو: الإسراء، ثم المعراج إليه، فقال: (( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ))[الإسراء:1]، ولم يقل برسوله، ولا بنبيه، وإنما قال بعبده؛ لأن هذا الاختصاص -كما قد تقدم- يعني: الذي بلغ الكمال في العبودية، فكأنه إذا قيل له سبحانه: من عبدك؟ قال: عبدي محمد صلى الله عليه وسلم، أي: الذي بلغ الغاية والكمال، ويستحق الاسم من غير قيد.
    فهذه العبودية فخر، وهي شرف، ففي مقام الشرف والامتنان يأتي وصف العبودية، وكذلك في مقام الوحي: (( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ))[النجم:10]، فأي شرف أعظم من هذا!
    فالذي يأنف ويستنكف ويستكبر إذا قيل له: اتق الله، وتأخذه العزة بالإثم، كما قال الله تعالى: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ))[البقرة:206]؛ فهذا داخل في هذا النوع والعياذ بالله، وهو ينازع الله تبارك وتعالى في صفة من أخص صفاته وهي الكبرياء، فالكبرياء رداءه عز وجل، لذلك فمن نازع الله تعالى في الكبر -واسمه المتكبر- فلا يدخل الجنة، بل ومن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فإنه كذلك، ويحشر هؤلاء المتكبرون في الآخرة كأمثال الذر، فهم على هيئة الرجال ولكنهم كأمثال الذر، يطأهم الناس في المحشر؛ عقوبة لهم.
  18. معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (.. وغمط الناس)

    والأمر الثاني: غمط الناس، أي: احتقار الناس وازدراؤهم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )، وذلك من أجل اللون، أو من أجل ما يسمونه في الأيام: الجنسية، أو من أجل الثروة، وقد يكون هذا المحتقر خير من ملء الأرض من مثل هذا المحتقر، فقد يكون في نظرك مجرد عامل بسيط، أو يكون في نظرنا في أعمال الدنيا، ولا يكاد يجد قوته، وهو رث الهيئة والملبس، ولكنه قد يكون خيراً عند الله عز وجل من كثير ممن يعجبك منظره، أو زينته في الحياة الدنيا، أو كلامه وقوله، كما ذكر الله تعالى عن المنافقين: (( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ))[المنافقون:4] أي: ليس لهم قيمة، فيهم جفاف ليس فيهم نداوة، وخشب مسندة ليس لها أصل، بخلاف ذلك الذي له أصل في التقوى، والإيمان، والعبادة، والذكر، فإذا قال المؤذن: الله أكبر؛ تطهر وذهب إلى بيت الله، وخشع، وبكى، وذكر الله، واستغفر الله، فهذا خير من الأرض من ملء أمثال هؤلاء، لكن معايير الناس تختلف، وينسون هذه الحقائق كثيراً.
    والغمط أيضاً لا يعني أنك تغمط من كانت هذه درجته فقط، فحتى لو كان مثلك وجعلته أقل منك فقد غمطته، فما بالك إذا كان أعلى منك وجعلته أقل منك؟! وما بالك إذا كان أعلى منك وجعلته لا يساوي شيئاً؟ فهذا غمط عجيب، ومن هنا يجب أن نذكر أنفسنا وإخواننا جميعاً بخطر احتقار المسلم، أو أن يرى المسلم لنفسه فضلاً على أخيه؛ ولا سيما إذا اعتقد ذلك، ولا نعني الشيء العابر، أو كما يظهر ويبدو للناس، لكن المشكلة إذا ظن واعتقد ذلك في نفسه، والقلوب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
  19. عدم ازدراء من كان فيه معصية ظاهرة، وتعليل ذلك

    قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ))[النساء:49]، فإن كنت ترى أن لك فضلاً عليه بغير التقوى -والعياذ بالله- فهذا خروج عن الأصل الذي هو: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، فلا نقاش مع من يرى ذلك، لكن من يرى أنه أفضل منه بالتقوى، أو بالعلم، أو بالاستقامة، أو بالالتزام، أو بالصلاح؛ فإنا نقول له: وما يدريك ذلك؟ فلا تطلق الأحكام، وأقل شيء أن تقيد هذه الأفضلية؛ فربما يكون في المخالف معصية ظاهرة، وتكون فيك كبيرة باطنة، وتكون عند الله تبارك وتعالى مثله، أو أقل منه وأنت لا تعلم، فلا تغمط الناس.
    فأنتما في الصلاة سواء، وفي الصدقة سواء مثلاً؛ وفي كل شيء إلا أنه يسبل إزاره، وهذه المعصية هي كبيرة ولا فيها نقاش في ذلك، وأنت ترى أنك متمسك بإعفاء لحيتك، ورفع إزارك، وترى أن هذا أقل منك في هذا الشأن، وكونك تدعوه وتنصحه هذا لا إشكال فيه، لكن أن تظن أنك أفضل منه عند الله لأنك كذلك فهذا غير صحيح. وهذا الخطأ يقع فيه كثير من الناس، فإذا رأوا واحداً هذا منظره ومظهره أطلقوا التفضيل أن فلاناً أفضل من فلان، وهذا غير صحيح، ولكن تقيد فتقول: فلان أفضل من فلان في ظاهره، أو كما يبدو لي، وأما إطلاق أنه أفضل وخير من ذاك فلا.
    ومع الأسف تجدون من هذا مظهره -وهو من طلبة العلم، والمحبين والمنتسبين إليه- قد يقع في الغيبة والنميمة، والوشاية، والحسد، وغيرها من الأمراض أو الكبائر الباطنة، ومع ذلك تجده لا يشعر بها، وذاك ما دام أنه يصلي، ويصوم، ويتصدق ففيه خير إلا أن نفسه، أو شهوته، أو هواه، أو زوجته، أو ضغط الوالدين عليه، أو ضغط المدير عليه في العمل، أو شيء من هذا جعله يترك هذه السنة التي تراها أنت واجبة، وهو لا يخالفك في ذلك، وهو دائماً يستشعر التقصير، فتجده إذا تكلم يقول: أنا والله وإن كنت حليقاً، وإن كان ثوبي مسبلاً؛ فإني أحب الطيبين، وكلما تكلم تستشعر أنه يعترف بالتقصير، ويعترف بأنه مخطئ.
    فانظر بعين التجرد من الأفضل عند الله عز وجل: صاحب الكبيرة الظاهرة الذي يأسف، ويتألم منها، ويعتذر على فعلها، ويدعو الله أن يعينه عليها، ويحاول أن يتغلب عليها، أو ذلك صاحب الكبيرة الباطنة الذي لا يفطن لها، ولا يأبه بها؛ لأنه يرى أنه ملتزم، فهو يحق له أن يتكلم في أعراض الناس كما يشاء، وأن يحسد، أو يغل قلبه أو ما أشبه ذلك.
  20. تقييد التزكية وعدم إطلاقها

    فالإيمان شعب كثيرة، وأعماله كثيرة، ولا يستطيع أحد أن يحكم على مجموع هذه الشعب إلا الله عز وجل، وبالتالي فمن ذا الذي يستطيع أن يجزم بأن فلاناً خير من فلان؛ إلا إذا كان على سبيل التقييد، ولهذا إذا زكيت أحداً فلا بد أن تقول: أحسبه كذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، ولا تطلق الأحكام وإنما تقيدها، وهكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  21. عواقب الكبر ممن لا تتوفر فيه دواعيه

    يقول: (فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يحب التجمل في اللباس الذي لا يحصل إلا بالغنى، وذلك ليس من الكبر، وفي الحديث الصحيح: ( ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم ) )، نسأل الله العفو والعافية، فهذا وعيد شديد غليظ، وهذه أربعة أنواع من الوعيد، والواحد منها يكفي في أن يزجر المؤمن عن حالهم.
    قال: ( فقير مختال ) أي: أنه يختال مع أنه فقير، وفي الرواية الأخرى: ( وعائل مستكبر )، فيمشي وكأنه طاوس، ويتحدث مع الكبراء ويخالطهم، ويتفاخر بأنه مثلهم، ويتدين حتى يكون لديه مثل ما لديهم: من سيارة، أو بيت أو ملابس، أو ألقاب عريضة، فالمتكبر الذي لديه دواعي الكبر: من مال، أو ثروة، أو نسب، أو جاه؛ حاله مذموم، فكيف به إذا كان فقيراً؟! فيكون الذم في حقه أشد، والوعيد أغلظ، نعوذ بالله.
    قال: ( وشيخ زان )، ولو زنى الشاب لكان فيه ما فيه، ولاستحق من العقوبة ما ذكر الله تبارك وتعالى: (( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ))[الإسراء:32]، فالزنا يفحش ويستقبح، وهو كبيرة من الكبائر، ويرتفع عن صاحبه الإيمان حتى يكون كالظلة ولو كان شاباً، ودواعي الشهوة متوفرة فيه، لكن أن يزني وهو شيخ فهذا عجيب، فربما يحمل نفسه على ذلك، ويتكلف ذلك؛ ليري نفسه أنه ما يزال شاباً، وأنه يستطيع أن يقضي شهواته ويتمتع، والعياذ بالله، فالوعيد في حقه أغلظ وأشد.
    والثالث: ( وملك كذاب )، فالعادة أن فقراء الناس وضعفاؤهم يكذبون ليحصلوا على دنيا، وليحصلوا على المال، فيكذبون الناس ليدارون بالكذب، لكن إذا كان الذي يكذب هو من يدارى، وهو الذي يتقيه الناس، وهو الملك أو الخليفة أو الأمير أو ما أشبه ذلك؛ فيجمع -مع كونه بهذه المنزلة العظيمة في الدنيا مع أهل الدنيا- الكذب؛ فهذا أشد مقتاً، وأغلظ عقوبة عند الله تبارك وتعالى، نسأل الله العفو والعافية.
    إذاً: فهذا يدل على أن مجرد الفقر في ذاته ليس فضيلة، وربما اقترن به ما يجعله أشد قبحاً، كما هنا اقترن هنا بالفقر الاختيال، وهو: الكبر.
  22. شؤم خاتمة الكبر

    قال شيخ الإسلام : (وكذلك الحديث المروي: ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله جباراً، وما يملك إلا أهله ) )، والحديث رواه الترمذي وحسنه؛ من حديث سلمة بن الأكوع .
    قوله: ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه ) هذا حال كثير من الناس، فإنه يذهب بنفسه، ولم يذهب به أحد، وليس هناك شيء يدعوه إلى الكبر، وإنما يخيل إليه أنه صار في منزلة كبار التجار والأثرياء، فيذهب بنفسه، ويصدق أنه قد أصبح في منزلة الأمراء، ثم يخطر على باله أنه قد صار في منزلة الملوك الجبابرة، وما عنده شيء! فهذا قد عشعش الكبر بداخل قلبه، فيكتب عند الله جباراً وما يملك إلا أهله، أي: ليس عنده شيء من دواعي الكبر والجبروت، ولا يستطيع أن يتحكم إلا في أهله، ولا يملك إلا بيته؛ ومع ذلك يكتب عند الله مع الجبارين الذين بطشوا بشعوب، وفتكوا بأمم، وتسلطوا على ملايين من الرقاب؛ لأن الدافع النفسي الداخلي لديه جعله يعيش وكأنه بطاش وجبار، وكأنه فرعون، وهو لا يملك شيئاً يتفرعن عليه إلا بيته.
  23. العبرة بما يقوم في القلب من الأعمال

    إذاً: فالمسألة ترجع إلى ما في القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب )، فإذا فسد القلب بالكبر والخيلاء والعجب فسد سائر الأعضاء، وفسد العمل كله والعياذ بالله، فكان صاحبه ممن ينال هذا الوعيد الشديد وهو لا يملك شيئاً.
    يقول شيخ الإسلام: (فعلم بهذين الحديثين أن من الفقراء من يكون مختالاً لا يدخل الجنة، وأن من الأغنياء من يكون متجملاً غير متكبر، يحب الله جماله)، فهذا دليل على أن التفضيل ليس بمجرد الفقر أو الغنى.
    (مع قوله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم ) )، فهذه هي القاعدة العظيمة: أن التفاضل إنما هو بما في القلوب، وبالأعمال، وليس بالصور، ولا بالأموال، وكثير من الناس يخطئون في ذلك، فيظنون أن التفاضل يكون بالمظهر، وبالصورة، أو بالمال، أو بالكمية أو بالكيفية، وهذا غير صحيح، فالعبرة ليست بالكمية ولا بالكيفية، وإنما العبرة بحقيقة ما في القلب من إيمان، وما فيه من يقين، وصدق، وإخلاص، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى يريد منا أن تكون صورتنا الظاهرة، وهدينا الظاهر مثل هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك منه ما هو مستحب، ومنه ما هو واجب.
    وكذلك أوجب علينا الله تبارك وتعالى في أموالنا صدقة، وزكاة، وحقوقاً يجب أن نؤديها، لكن لا يعني ذلك أن محط نظر الله سبحانه وتعالى إلى عبده مجرد الصورة أو المال، فالمظهر جزء من الإيمان، ولكن المخبر هو الأهم؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22]، وقد تقدم هذا في موضوع الإيمان.
    وقال أيضاً: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:7].
    إذاً: فالإيمان الأصل فيه هو القلب، فإيمان القلب، وأعمال القلب أعظم وأهم من أعمال الجوارح؛ مع أن أعمال الجوارح لابد منها، والواجب منها واجب، ولا بد لمن حقق أعمال القلب أن يحقق أعمال الجوارح، لكن كلامنا هنا في أيهما أفضل، وفي أيهما الأصل، وكما قال صلى الله عليه وسلم : ( التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات ) أي: فليست التقوى بالادعاء، ولا بمظهر لا حقيقة له، وإنما هي في القلب.
    ولو أن التقوى مجرد مظهر يتجمل به أو يشترى لاستطاع كل أحد أن يشتريها، وأن يلبسها ويتجمل بها، ولكنها حقيقة في القلب لا بد منها، فلذلك قال: ( التقوى هاهنا )؛ ليشعر أن الأصل هو إيمان القلب، ويقينه، وبراءة القلب ونظافته، وقد جاء في الحديث كما في بعض رواياته: ( لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تناجشوا، التقوى هاهنا )، أي: هل تريد أن تكون تقياً؟ فطهر قلبك من الحسد، وطهر قلبك من النجش، وطهر قلبك من البغضاء، أما أن تصلي، أو تصوم، أو تتمسك بعض الأعمال الظاهرة؛ فهذا وحده سهل، لكنه لا ينفعك ولا يغنيك إذا كان القلب فيه الغل، وفيه الحسد، وفيه الحقد، والعياذ بالله.
  24. اهتمام الإنسان بالتفتيش عن عيوبه والانشغال بها عن عيوب الناس

    فهذا الأمر من مواضع الخطر، ومزالق الشيطان، ورحم الله امرءاً شغله عيبه عن عيوب الناس، وما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصون على تتبع عيوب الآخرين، وهذا الأمر طويل جداً فلا نطيل فيه، ولو استعرضنا ذلك لوجدنا كثيراً من كلامهم ذكره ابن الجوزي و أبو نعيم ، والإمام أحمد وغيرهم، فقد كانوا أحرص الناس على عيوبهم، وكان أكثر شيء يحطون من قدره هي أنفسهم، ولا يرى الواحد منهم لنفسه فضلاً على أحد من عامة المسلمين في التقوى، والإيمان، والخير، بل ربما قد يرى الواحد منهم أحياناً بعض من عليه أثر المعصية فيقول: يا رب! قد يكون هذا خيراً مني، وهذا ليس من باب اعتقاد أن صاحب المعصية أفضل من صاحب الطاعة؛ لا، ولكن من باب: أن فلاناً ربما يكون له صلاح باطني، فهو خير مني؛ فقد يكون عملي مشوباً بالرياء، وربما لم يتقبل عند الله.
    فهذه من باب تأديب وزجر النفس، وإلا لو أطلق الإنسان لنفسه هواها، ورأى أنه أعلم من غيره، وأتقى وأفضل وخير؛ لاستُدرج من حيث لا يشعر والعياذ بالله، فأصابه الكبر والرياء والعجب بالعمل؛ فيحبط عمله، نسأل الله العفو والعافية.
    وربما يصل حال هذين إلى ما تقدم معنا من حديث ذلك الرجل من بني إسرائيل؛ الذي قال لأخيه -وقد كان من أصحاب المعاصي، وكان على معصية-: ( إلى كم تفعل هذا ولم تنته؟ والله لا يغفر الله لك، فقال الله تبارك وتعالى: من ذا الذي يتألى عليَّ؟ إني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك )، مع أن هذا كان آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، والآخر كان على معصية ظاهرة.
    فالإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فمنها الشعب الظاهرة، ومنها الشعب الباطنة، وبعض الشعب الظاهرة لا تستطيع أن تحكم على الناس من خلالها، فكيف بالشعب الباطنة! فلا تستطيع أن تحكم أن صلاتك أحسن من صلاة فلان، لأنك لا تراه وهو يصلي كل الفروض، فأحياناً تراه وأحياناً لا تراه؛ فلعله يصلي في مسجد آخر، فلا تستطيع أن تحكم عليه، مع أنها شعيرة ظاهرة، وعبادة ظاهرة، فما بالك بنظافة وطهارة القلب باليقين، وبالإخلاص، وبالصدق، وبالصدقة الخفية، فذلك لا يعلمه إلا الله، فربما يكون هذا الرجل له ميزة أنت لا تشعر بها، ولا تخطر لك على بال.
    فهذا أويس القرني حض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه -وهم أفضل الناس- على أن يطلبوا منه الدعاء، وكان عمر رضي الله تعالى عنه منهم، ودلهم على فضله، فقال لهم: ( له أم هو بها بار )، فما أدراك أن هذا الرجل الذي ترى أنك خير منه علماً، وتقوى، وفضلاً، وإخلاصاً؛ أنه قد يكون أبر منك بأمه؟ فأنت لا تراه كيف يعامل أهله وأبويه.
  25. تخيير الله لنبيه واختيار نبيه

    قال: (ومن هذا الباب أن الله تعالى خيره -أي: خير الرسول صلى الله عليه وسلم- بين أن يكون عبداً رسولاً، وبين أن يكون نبياً ملكاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً).
    فهذه من الحكم العظيمة جداً التي لا نجد مثلها إلا عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فتراه كيف يعلل هذا الكلام.
    قال: (فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً رسولاً؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده، لا لأجل حظه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه؛ وإن كان مباحاً) فالله تعالى أعطاه الملك، وأباح له أن يتصرف، (كما قيل لـسليمان : (( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ))[ص:39]).
    وقال أيضاً في الآية الأخرى: (( تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ))[ص:36]، فالريح يتحكم فيها، والجن يصرفهم، والشياطين يدبرهم كما يريد، فهذا أمر مباح له، والله تعالى أعطاه ذلك، ومكنه منه، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فاختار ما هو أعلى من ذلك: أن يكون عمله كله بأمر الله، لا بما يريد هو، ولو شاء لطلب ذلك، ولأعطاه الله تعالى إياه، فهو حلال، لكن اختار الدرجة الأعلى والأرفع؛ لأن ذلك هو مقتضى العبودية.
    (ففي هذه الأحاديث أنه اختار العبودية والتواضع، وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه) فهو الأعلى قدراً ومكانة هو ومن اتبعه صلى الله عليه وسلم، ولكنه اختار برضاه المسكنة، أي: التواضع لله عز وجل، والعبودية والإخبات (كما قال: (( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ ))[آل عمران:139].
    وقال: (( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ))[المنافقون:8]، ولم يرد العلو، وإن كان قد حصل له) لأن الله تعالى يقول: (( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا ))[القصص:83]، وقد حصل له العلو من غير إرادة منه له، وهناك فرق بين أن تريد العلو لدعوتك، ولدينك، وبين أن تريد العلو لنفسك.
    فالمؤمنون الأتقياء الصادقون الدعاة إلى الله تبارك وتعالى لا يريدون العلو لأنفسهم، ولا يريدون أن تكون لهم الكبرياء، ولا أن يكونوا هم الحكام، ولا أن يكونوا هم الآمرين والناهين المتسلطين، لكن يريدون العلو لدينهم، فإذا أعز الله تبارك وتعالى دينه، ومكِّن لهم، أي: لمن أدرك ذلك منهم، فـمصعب بن عمير وأمثاله لم يدركوا ذلك، وهذا لا ذم فيه؛ لأنهم لم يطلبوه، وإنما هذا من عند الله، فقد مكن دينه ودعوته، فتمكن أهلها.
    يقول: (وقد أعطي مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره صلى الله عليه وسلم، وإنما يفضل الغني لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا تنفع بل قد يضر، وقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً على أمور من اللأواء والشدة ما لم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين).
    فقد جمع الله له بين الأمرين، ففي حال الفقر عانى من الجوع صلوات الله وسلامه عليه، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من رديء التمر، وما كان يأكل في أكثر طعامه إلا من الشعير، وما أكل خبزاً حوارياً أو مرققاً، ولا جلس على إخوان قط صلوات الله وسلامه عليه، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من الشعير؛ قوتاً له ولأهله، وعصب على بطنه الحجر من الجوع، وفتح الله تبارك وتعالى عليه مع هذا أيضاً، فجاءته بعد ذلك الغنائم، وجاءه الخير، ومرت به حالات شدة صلى الله عليه وسلم مع هذا، ولو شاء التزود صلوات الله وسلامه عليه من ذلك لأعطي، فقد خير أن يعطى بطحاء مكة ذهباً، وخير أن يكون ملكاً رسولاً، فاختار غير ذلك، فكان -كما قال ابن رجب رحمه الله-: (نال أعلى درجات الشاكرين، وأفضل مقامات الصابرين معاً).
    وقد وافقه في ذلك -وإن اختلف المقدار- الجمع بين أعلى مقامات الشكر، وأعلى درجات الصبر؛ أبو بكر و عمر رضي الله تعالى عنهم، فقد وسع الله تعالى عليهما، وفتحت في أيامهما الفتوح، وجاءتهما كنوز الأرض؛ ومع ذلك كانا كذلك.
    وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.